توجد فى مصر شخصيات تعمل بإخلاص فى مجالات لا يهتم الإعلام ولا وسائل التواصل الاجتماعى بها، هؤلاء لا يبحثون عن عائد مادى، ولا يبحثون عن الشهرة، هم يقومون بعمل يعتقدون أنه ضرورى للحفاظ على الهوية الوطنية، والدفاع عن تاريخ وثقافة مصر..
يوجد عشرات يدرسون التاريخ المصرى القديم الذى لا تهتم به الصحف، وهؤلاء خلقوا حائط صد فى مواجهة المزاعم الصهيونية وادعاءات أصحاب النوايا التى تحاول انتزاع مصر من تاريخها القديم.
ويوجد عشرات يبحثون عن حلول فى الزراعة والتعليم وتطوير الريف، نماذج رائعة من البشر، يفكرون ويكتبون وينشرون فى منابر متخصصة أو يتحدثون فى ندوات يرتادها جمهور قليل، لن تجد مثلًا مثل عبدالعزيز جمال الدين يعرف فى التاريخ المصرى قديمه وحديثه، لن تجد مثل مجموعة دسوق التى تتلمذت على يد الدكتور على النويجى، رحمة الله عليه، مجموعة تتحدث بشكل عملى وميدانى فى مجال الزراعة، وهناك من يبحث فى مشاكل والفلاحين والتعليم مثل بشير صقر فى شبين الكوم، ومن يبحث ويحقق فى العمارة فى الإسكندرية، ومن يبحث فى التراث الشعبى والصوفى فى الصعيد، والجميل أن معظم هؤلاء يعيشون فى الدلتا والصعيد، ويشكلون معًا ضميرًا ثقافيًا يجعلك مطمئنًا على هذا البلد..
من بين هؤلاء يوجد عصمت النمر، الطبيب الجراح الذى يعيش فى الزقازيق بمحافظة الشرقية، والذى تعرفت عليه منتصف ثمانينيات القرن الماضى عند الشيخ إمام عيسى، رحمة الله عليه، هو كان أحد المقربين له ولأحمد فؤاد نجم، ولحن له الشيخ عددًا من القصائد، عصمت شاعر ينتمى إلى جيل السبعينيات، ولكنه كان مستقلًا، ولم يدخل فى صراعات جيله، منذ ثلاثة عقود تفرغ تقريبًا لمشروع يحتاج إلى مؤسسة تقوم به، وهو حماية وتوثيق تراثنا الموسيقى منذ القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن الماضى، وسعدت بتعاونه معى فى معظم المواقع التى كنت مسئولًا عنها فى مؤسسة الأهرام أو خارجها..
عصمت يعتقد مثلى أن فن الغناء هو ديوان المصريين وليس الشعر أو الرواية، بحيث تستطيع أن تتعرف على أحوال الناس وأفراحهم وأحزانهم وانتصاراتهم وهزائمهم من خلال هذا الفن.. ساهم فى تأسيس منتدى سماعى المتخصص فى التراث الغنائى المصرى، وأسس على الإنترنت إذاعة مصرفون، يمتلك أهم أرشيف صوتى وصحفى، يقلب فيه، يخرج لنا تسجيلات من بدايات القرن العشرين، لمقرئى ومقرئات القرآن الكريم لا نعرف عنهم شيئًا، ويحكى عن شعراء وملحنين وأبحاث فى الموسيقى..
هو ينفق من جيبه ولم يتربح من عمله هذا، هو يشعر بالمسئولية، ويحاول إنقاذ ما تبقى من ذاكرة، لم يكن مشغولًا طوال السنوات الماضية بجمع ما ينشره هنا أو هناك فى كتب، ربما بسبب اهتمامه المبكر بالنشر الإلكترونى، ولكنه اقتنع أخيرًا بأهمية الكتاب الورقى، فأصدر مؤخرًا باكورة كتبه «طرب زمان» فى تراث النغم عن دار المحرر، الكتاب المكون من تسعة فصول يرسم جدارية عظيمة لزمن وأشخاص ومصائر أجيال صنعت نهضتنا الفنية، ستجد كلامًا مختلفًا عن الزجل والزجالين حتى منتصف القرن العشرين، وعن العزف والعازفين فى نهايات القرن التاسع عشر، وعن طرب المشايخ، وعن مقرئات القرآن الشهيرات، وعن شخصيات ظلمت وعن دولة الابتهالات والتواشيح، يتحدث النمر عن دور الشيخين الأزهريين شهاب الدين ومحمد عبدالرحيم المسلوب فى التطوير الذى وصل إلى الذروة على يد محمد عثمان وعبده الحامولى، ويرى أن الأزهر لعب دورًا عظيمًا فى هذا التطوير، لأنه كان المكان الوحيد الذى كان يدرس تجويد القرآن، ومن أهم قوانينه: النفس الطويل، النطق السليم، قوة الصوت، معرفة المقامات الموسيقية، إجادة التحويلات المقامية إجادة تامة، الارتجال، ويذكر التاريخ أنه من أهم من نظم كلام عبده الحامولى أعظم مطربى القرن التاسع عشر هم مشايخ كبار، مثل على الليثى وعلى أبوالنصر وعبدالرحمن قزاعة مفتى الديار المصرية فى ذلك الوقت، الكتاب يسعى صاحبه من خلاله إلى حماية التراث الغنائى المصرى باعتباره تراثًا إنسانيًا مهددًا بالمحو والاندثار، فى ظل تردى الذوق وجهل الجيل الجديد بالتراث القديم، الجهد الذى يقوم به الدكتور عصمت النمر يستحق التقدير وتسليط الضوء عليه.. لأننا فى حاجة إلى العودة للغناء. معًا.
لا تعليق